• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خارطة الجرح الطائفي والسعي إلى تكريسها

حكمت البخاتي

خارطة الجرح الطائفي والسعي إلى تكريسها

انتهت الحرب الداخلية -الأهلية في العراق وألقت الأطراف المشاركة فيها كلّ ما في ترسانتها الطائفية من تخزينات الموروث من حقب الصراعات التاريخية والسياسية بعد أن امتثلت في سلوك الكراهية الذي شكّل سمة امتيازها اعتقادات شحنت طائفياً بضرورة بتر الطرف الآخر في المعادلة العراقية، وأخيراً أدركت هشاشة أفكارها الطائفية وانتبهت إلى عمق الوهم وجذره الذي كرسته المؤسّسات السلطوية في تاريخ وحياة المجتمعات الإسلامية وحشرت الضمير الإسلامي في خارطة الجرح الطائفي.

لقد كانت الحرب الداخلية وفي بعض معادلاتها التاريخية والسياسية تشكّل طفرة نوعية نحو السلم الأهلي وضرورته، وهي المفارقة التي تنتجها الحرب الداخلية في الكثير من الوقائع والأحداث التي عصفت بالبلدان التي ذاقت ويلات هذه الحروب، وتمكّنت في بعض تجارب هذه البلدان من إزاحة تراكمات سياسية واجتماعية تولَّدت عن عقود طويلة أو قرون من سياسات النبذ والتهميش والإكراه المتبادل أحياناً والمرتبط غالباً بأحادية طرف ما.

لقد احتفظ اللبنانيون بذكرى وبقايا الباص الذي أحرقته وركابه رصاصات الترسانة الطائفية لتحترق في أعقابه كلّ لبنان في تلك الحرب الأهلية التي لم تكفِ عن ذر رمادها على امتداد الأرض اللبنانية، لكن لبنان اتقت خطورة هذا الرماد وحمت عيونها من آثاره حين اعتصمت الذاكرة اللبنانية ولاذت بموقف الباص وبقاياه التي ظلت تذكرهم بمأساة الحرب والتحذير المستمرّ لهم من معاودة اللعب على الحس الطائفي، ذلك الوتر الذي إذا عزف دق ناقوس الخطر، وهكذا احتفظت الذاكرة اللبنانية برصيدها من المفارقة التي تنتجها الحروب الداخلية في التحذير من معاودتها وأهميّة إنجاز السلم الأهلي، ومنذ تلك اللحظة في الإطلالة المتفحمة للذاكرة اللبنانية والتي رسمت خطوط الطول والعرض فيها ببقايا ورماد الباص المتفحم لم تجازف الإرادة اللبنانية في تحريك أدوات الحرب الطائفية لكنّها ظلت عالقة في أزماتها ولم تتغلّب على نتائجها في تشظيات الهُويّة الوطنية، وشغلت إسرائيل وتهديد الأمن اللبناني والحرب الداخلية السورية الأخيرة والتوظيف الإقليمي الطائفي لها دور التصعيد للأزمة اللبنانية الداخلية التي أعاقت لبنان دولة ومجتمعاً عن تجاوز بقايا الحرب الأهلية في الأزمة الطائفية التي تسبّبت عنها هذه الحرب رغم التمسّك بالحذر والخوف من معاودتها.

ويظل التصميم الواعي في هندسة الهُويّة الوطنية والتخطيط التعبوي في بناء الذات الاجتماعية وسياسات العدل الاجتماعي والقانوني هي الكفيلة بتجاوز بقايا وآثار النزاعات الأهلية والحروب الداخلية، فآثار هذه الحروب ومخلفاتها النفسية والاجتماعية تظل ماثلة ومؤثرة وتمارس شرخاً خطيراً في الهويّة الوطنية إن فقدت الدولة وإدارة الحكم فيها خطط البناء الوطني والتطوير الاقتصادي والتنموي، فاللحمة الوطنية تتكفل بها برامج النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدولة الحديثة، وهي شرط دخولها في ميدان التفاعل الإيجابي على المستوى الإقليمي ومن ثمّ الدولي، وهي بنفس الوقت شروط السلم الأهلي والأمن الإقليمي.

 وقد تطوّرت تلك الشروط إلى قواعد الحماية للأمن الداخلي الذي صارت تنعكس آثاره على المستوى الدولي فالدول التي تعاني شرخاً في تشكيل الهويّة الوطنية تصنف دولياً كاقتصاد متخلف وفاسد ونظام سياسي فاشل وساحة أو فرصة للتدّخلات الأجنبية الدولية والإقليمية ومن ثمّ تتحوّل إلى أزمة دولية تستعصي على الحل، ويتطوّر الخطر فيها أو منها إقليمياً ودولياً وأخيراً تهدد السلم العالمي لاسيّما بعد ظهور موجات الفكر المتطرّف والأُصولي والذي لا يقف عند حدود دول معيَّنة أو محدّدة بل تحوّل إلى أزمة دولية وكارثة إنسانية مسؤولة إلى حدٍّ بعيد عنها الحروب الأهلية الداخلية ذات المنحى والنهج الطائفي والتي بدأت في تلك الدول الفاشلة سياسياً والفاسدة مالياً وإدارياً، وهو مؤشر استبياني عن الخطر الناجم عن الحرب والكراهية الطائفية مثلما كان الخطر الناجم عن استغلال النازية للكراهية العرقية في تأجيج الحرب الكونية الثانية.

 وهكذا نجد مدى التهديد الذي تختزنه الحروب الأهلية المتسبّبة طائفياً أو عرقياً على السلام الدولي حتى وإن كفّت الأطراف المشاركة عن الاستمرار فيها ومالت إلى السلم أو إلى القناعة بعدم جدواها والحذر من آثارها المدمرة، لكن هذا الموقف قد يتحوّل إلى لحظة عابرة أو هدوء يسبق العاصفة أو انتظار فرصة سانحة في خوض هذه الحرب مرّة أُخرى في ظل مضاعفات الأزمة في المنطقة وتداعيات التدخلات الدولية والإقليمية المستمرة والتي تعتبر بالنسبة إلى هذه الدول الكبرى جزء من سياساتها الإستراتيجية والخارجية.

ممّا يؤشّر أهميّة تصاميم الوعي الوطني في الدول المعرضة أو التي تعرّضت لهذه الاهتزازات على صعيد الهويّة الوطنية وظهور أيدولوجيات الهويّات الفرعية التي جعلت في منظورها وأهدافها التنسيق وفق الرؤية الأميركية في إعادة ترتيب خارطة دول العالم العربي والإسلامي بترسيم حدود الطائفية والعرقية وتغليب مفهوم وثقافة الهويّات المحلية والفرعية على مفهوم وثقافة الهويّة الوطنية وهو ما يسمح لنا بتسميتها بخارطة الجرح الطائفي.

لقد كان واضحاً مشروع الترسيم الجديد في هذه الخارطة المبتكرة ومعبراً عنه في سياسات التدخل الأميركي غير المحايدة في أزمات المنطقة وفي التسميات الطائفية التي يؤكّد المسؤولون الأميركيون على استخدامها في تصريحاتهم الرسمية، ونلاحظ حجم غياب تسميات الشعب والمجتمع لديهم في الحديث عن دولنا ومنطقتنا ويعمدون في هذا الأسلوب السياسي إلى نكأ الجرح الطائفي المخزون في موروثنا وتبرير مشروعية الطرح الطائفي في نظريات التعددية الثقافية ذات المنشأ الأميركي ولحساب تفتيت الهويّة الوطنية في دولنا ومنطقتنا مع تأكيدنا على التجاوزات والانتهاكات التي تعرّضت لها تلك الهويّات والجماعات المختلفة دينيا ومذهبياً وثقافياً على يد الأنظمة الدكتاتورية والطائفية في عالمنا العربي والتي أربكت المسار السياسي والاجتماعي للدولة الوطنية ومن ثمّ أربكت تكوينات الهويّة الوطنية وسمحت للترسانة الطائفية أن تملأ الفراغ الوطني بالشحن والولاء الطائفي، والذي استثمرته الولايات المتحدة الأميركية لتعزز من سياسات وأساليب التجزئة والتعدّدية ذات المضامين المشوهة والإشكال المربكة للسلم للأهلي والسلام الإقليمي ومن ثمّ الدولي.

لقد أنتجت سياسات الولايات المتحدة في المنطقة أو دعمت إمكانية التهشيم الداخلي للهويّة الوطنية في الدول التي تواجدت فيها سياسياً وعسكرياً وفوضت الحرب فيها إلى أمراء الطوائف، وعلى أقل تقدير فإنّها لم تستغل ثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري في منع هذه الحروب وكان مفترض بها أن تراعي جانبها الحضاري كدولة عظمى في أداء مسؤولياتها الأخلاقية التي طالما تبجح بالحديث عنها المسؤولون الأميركيون، أو مراعاة وظيفتها القانونية - الدولية كدولة محتلة، بل إنّ هيمنتها على القرار الدولي أدَّى إلى إرباك الموقف الدولي بصورة عامّة وجعلته متردداً في اتّخاذ قرارات حاسمة بشأن مصائر هذه الدول التي تعرّضت إلى انهيار أنظمتها السياسية ونتجت عنها الفوضى السياسية والاجتماعية، والتي يبدو أنّها كانت متعمدة في المشروع الأميركي حين وصمتها الرُّؤى الأميركية بالفوضى الخلّاقة التي فاجأت العالم بمأساة الحروب الطائفية في المنطقة وجرائم الإرهاب العابر للحدود في العالم، وقد تمدّدت هذه الفوضى دولياً في اختراق خرائط الدول الذي مارسه التطرُّف الفكري وهدّد بتوزيع الفوضى في كلّ أنحاء العالم ممّا جعل العالم لاسيّما الحديث يقف أمام مسؤولياته بشكل مباشر لكنّه ظل يفتقد إلى الجدية الكاملة والرصينة أو المطلوبة في مواجهة التنظيمات الجهادية والإرهابية.

 ولم يفلح التحالف الدولي الذي شكّلته وقادته الولايات المتحدة الأميركية وبعضوية دول غربية وبعض دول عربية من القضاء الكامل على تلك التنظيمات ممّا عكس موقفاً دولياً وإقليمياً متسامحاً بل ومتواطئاً مع تلك التنظيمات والجماعات الجهادية المتطرّفة لاسيّما وأنّ تجارب ووثائق مسبقة كشفت عن هذا التحالف المضمر وأحياناً شبه المعلن بين تلك الدول الكبرى اقتصادياً وعسكرياً والدول العربية الغنيّة نفطياً والمجموعات الإرهابية، وتسعى هذه القوى مجتمعة لاسيّما الولايات المتحدة الأميركية إلى تكريس خارطة الجرح الطائفي على امتداد العالم الإسلامي.

ارسال التعليق

Top